الأحد، 27 نوفمبر 2011

أبى فوق الكنبه


كان قاعداً على  الكنبه ، ليل نهار ، عينه لا تغفل ، يقلّب فى القنوات كلّها ، يخشى أن تفوته كلمه أو يهرب من عينيه مشهد وهو يشرب الشاى أو يقوم ليجمعنا معه على السفره ليطمئن أننا ناكل  . ما كان يأكل غير القليل حتى يعود للمتابعة سريعاً . رابضٌ على  الكنبه .  قال وهو كذلك أجمل كلامٍ سمعته منه فى عمرى :" همّه العالم دول عايزين م الدنيا إيه أكتر من كده؟ الواحد يعوز إيه فى سنُّه دى أكتر من إنه يلاقى بيته ولقمته ودواه وعياله بخير حواليه ، إيييييه بقى؟ أكتر من كده يبقى بَطَر، وسايبين شعبهم كده ، ح يروحوا من حساب ربنا فين؟ لييييه كده؟ ح يستحملوها إزّاى دى؟ لسّه فيهم نَفَس؟ مخلِّدين يعنى؟"
ثمّ ، و هو يتابع تساقط الشهداء ويرى تلاحم الناس فى الميدان: "العيال دول رجّاله واللهِ بجد ، لأ ما يسيبوش الميدان ، لازم يجيبولها آخر ، خلاص ، المشوار اللى بدأوه لازم يكمّلوه هانت ، واللهِ هانت ، يصبروا بس شويّه وربنا ح ينصرهم إن شاء الله. همّه كده آخر تمام."
وحين كانت أمّى بطيبتها تقول "خلاص ماهو الراجل قال ح يمشى مش ح يورِّث ابنه آهو عايزين إيه تانى؟ يروّحوا و يفضّوها سيره بقى"
كان زئيره يعلو : "اسكتى انتى مش عارفه حاجه، دول لو روَّحوا ح يفرموهم ، دول اتسعروا ومالهمش أمان ، حد يعمل كده؟ يقتّل فى شعبه كده؟ العيال دول فاهمين أكتر مننا وعارفين بيعملوا إيه ، ده مستقبلهم وحياتهم ، إحنا عيشنا حياتنا خلاص ."
 كان ينظر إلى أولادى بحنانٍ طاغٍ ويقول: " انا عايز إطّمّن علي دول ، والله كنت قلقان ح يعيشوا أزّاى ، زمانهم صعب قوى"
ولن أنسى ما حييت كيف وقف فى الشرفة يحيِّى جماهير المتظاهرين ويلَوِّح بيديه لهم باكياً اعتلال صحته الذى منعه أن يسافر إلى التحرير ليكون فى قلب الأحداث. كما لن أنسى ولن ينسى أولادى موقفه حين لاحظنا أنه لا يأكل كما يجب و علمنا أن السبب ألمُ فى أسنانه. فقمنا بالحجز له لدى طبيب الأسنان،"عايزين نطمئن عليك يا بابا " ففوجئنا به يقوم من مكانه غاضباً ويقول لنا قولته التى هزَّت مشاعرنا جميعاً: "سنان إيه و بتاع إيه اللى نطّمّن عليها ، مش لمّا نطّمّن على بلدنا الأول؟"
كنا نختزنه فى الذاكرة لحظةٌ بلحظه ، كلمةٌ بكلمه ، نظرةٌ بنظره . وكأننا نعلم .....
 شاء الله لى و زوجى وأولادى أن نعود من المظاهرات قبل الإعلان عن التنحّى بربع ساعة فقط ربّما لنشاركه الفرحة ويرانا وقد عُدنا و كأننا للتو عائدين من عُرس أو رحلةٍ خلويه. رأيتُ وجهه كيف استقبل الخبر بفرحةٍ طاغيه لكنها فرحة من كان واثقاً تماماً بأن ذلك لا بد أن يحدث.
عاش فرحته شهران لا ينقصان يوماً ، قبل أن يرحل إلى ربِّه و يترك لنا الحسرة والحيرة والتخبُّط والألم. أحمد الله أن كان آخر عهده بالدنيا ، قبل رحيله بستة أيّام فقط الاستفتاء على الدستور. ذهب إلى هناك محمّلاً بالحلوى يفرِّقها على الناخبين والجنود على حد سواء. وجاء يزورنى وفرحته تتقافز فى عينيه كالطفل فى العيد ويقول لى: " قلت لأ طبعاً ، همّه لسّه ح يضحكوا علينا؟ أنا مبسوط قوى واللهِ ، سبعين سنه ودى أوّل مرّه أنتخب واقول رأيى."  ثم أسند رأسه للوراء و قال من عمق أعماقه :" الحمد لله " وأشار إلى أولادى وهو يقول "عشان الولاد دول يطلعوا فى دنيا أحلى من اللى عشناها ، الحمد لله ، أنا كنت خايف عليهم أوى "
لم يعلّمنى أبى السياسه ، لكنه علّمنى معنى الوطن
لم يعلّمنى كيف أراوغ أو أتحايل أو أهادن ، وإنما علّمنى معنى العزّة والحريه ، وأورثنى الكرامة والإباء
علّم أولادى حب هذا الوطن ، وعلّمنا جميعا أن نفتح عيوننا وعقولنا وألا نسمح لكائنٍ من كان أن يستغل حبُّنا للوطن فيُسَخِّرنا لخدمة أغراضه هو ، "مش ح يضحكوا علينا خلاص"
هذا ما سأذكره وأنا أقف غداً فى الطابور ... سأذكرالله ، وأذكر مصر الغاليه و أذكر أبى الذى ... كان مصريّاً حتى النخاع :
كان رجلاً بحق الرجوله ، يضِجُّ الهواء حوله بهالةٍ من المهابة والجلال
كان بشوشاً ، شديد الطيبة ووافر الشهامة والكرم
وكان دفّاق الحنان و المودّه ...
 و ... كان أيضاً .......................... رابضٌ فوق الكنبه !!

هناك تعليق واحد:

  1. I can't be more touched by anything else like i m touched by these words i am grateful that allah gave me a grandpa like him and a mother like you.its an amazing article and thank you for writing it

    ردحذف